منذ صدور ذلك المرسوم التشريعي الذي تناقلته الصحف والمجلات ودور النشر وأجهزة الإعلام
واليافطات المعلقة على الجـدران في كل مكـان
والذي يمنـــح جميع المواطنين: حاملـي البطاقات الشخصيـة، والبطاقات الانتخابية والبطاقات التموينية
والأمنيـة والنقابيــة والتعبوية والحزبيـة وحسن السلوك والبطاقات الهاتفيـة وبطاقات الدخول والخروج
حريــــة الأحـــلام، وأنـا أحلــم مثل كـل مواطن وديـــــع ... كنت أحلــم
،في البداية كانت أحلامي جميلة جمال هــذا الوطن
وكنت أتشبث في فراشي كطفـل صغير أبعـدوه عن ألعابه، كلمــا أعـلــن جرس المنبـه عن بــدء يــوم جديــد
،ولكن أحلامي بدأت تكبــر مع آلامــي
وأصبحت مزعجـة مؤرقـة وتحولت الى أحلام يقظــة ترافقني في كل الأوقات
ولم أكــن والحــق يقـال مستاءً الى هـذا الحــد
فقد تعرفت على العديــد من الشخصيات التاريخية والسياسية والبلدان والمواقف
،والشعارات والقضايا من خلال أحـــلام اليقظــة هـذه
فبالأمس مثلاً كانت تجلس الى جواري الوحــدة العربيــة، في طريقي الى نقابة تجّــار التجزئة ودار بيننا حديث ممتع
حـول أسباب الانفصال ودوافعــه وكانت بالقرب منـا تجلس الوحـدة الوطنيـة، تسترق السمع وتضحك لكل كلمة تقــال
وهيتحاول جاهدة إيقاف صراخ وعيـاط أولادهـا الذين يسرحون ويمرحون في أرجــاء الباص
صحيح أنني لم أفهم شيئاً مما دار بيننـــا لشدة الضجيج، لكنني كنت سعيداً برؤية الوحـدة العربية
والتقيت مع صلاح الدين الأيوبي في إحــدى المكتبات وأنا أبحث عن كتاب فـــن الطبخ الأميركي
وتحدثنـا عن أفضل السبل لاسترجاع القدس ومهــد المسيح له المجــد في السماء وعلى الأرض
وفي ركن من المكتبة ذاتهـــا كانت القضيـة العربيــة ترش الماء البارد على وجــه المعتصم بالله
في محاولة يائسة لإيقاظـه من غيبوبتــه بانتظار سيارة الإسعاف
صحيح أننــا لم ننهي الحـوار نظراً للظروف الطارئــة بالمكتبة، لكنني كنت سعيداً بحضور سيارة الإسعاف
خــلال عشرة قــرون فقـــط.
واشتدت حــالة الإعيــاء عنـدي وكثرت لقــاآتي مع شخوصي الافتراضية وأصبحتْ مصدر إزعــاج
لمن حولـي من الأهـل والصحب، ونصحني أحــد الزملاء وهو طبيب نفساني مخضرم أن أخرج
عن حالة اللاوعي هذه بالدخول في حالة لا وعي أخرى تعادلها بالقـوة وتعاكسها بالاتجاه
.على رأي إخواننا المهندسين، أي وداوِهــا بالتي كانت هي الــــدا
لم أقــاوم رغبتي الشديدة في تنفيذ فتــوى زميلي الطبيب فوثبـت الى أقــرب مشرب على الناصية ممنياً النفس
بدفء جميل بعيدا عن عواصف الشارع الباردة، وأخذت مكاني على البــار تماماً كما يفعـــل بنــوا" الكاو بوي"
وطــال انتظاري لزميلي الطبيب وبــدء القلق يتسرب الى قلبي، وهممت بالخروج عندما لمحته يدخل الحانة
وهو يؤشّر بيديــه كشرطي المرور في شارع مزدحــم، منهمك في حديث مسموع، يضحك ويبكي في آن معـاً
كمن أصابه مسٌّ من الجنــون، ضممته الى صــدري أخفف من روعــه أسأله عن سبب تأخره الطويــل في العيــادة
!تنهـــــد صديقي وهو يمسح دمـوعه عن وجنتيــه وقــال: زارني الوطـــن الليلة في عيـــادتي
صحيح أنني لم أشرب شيئاً بعـــــد، ولكنني خرجــت متأبطـاً ذراع صاحبــي، حزينـــاً ... حزينــــاً حتى الثمـــــاله